Fri , May 17 , 2024

كلمة المدير العام

 

اقرأ المزيد
الرئيسية أخبار محلية الأزمة وتداعياتها: تساؤلات عن معنى ما يرتبط باللامعنى

الأزمة وتداعياتها: تساؤلات عن معنى ما يرتبط باللامعنى

كتب: رفعت صباح*

شروط وتداعيات ومعطيات لم تكن في الحسبان؛ فرضتها علينا جائحة كورونا، فهي أزمة لا تشبه أي أزمة أخرى، ولا تشبهها أزمة، كيف لا وهي التي ألزمت سكان المعمورة الالتزام ببيوتهم؟ وهي التي أغلقت المدارس والجامعات والمؤسسات ودور العبادة، وهي وقائع رافقها ما سُمّي بالتباعد الاجتماعي الذي خلق حالة من اللامعنى، لتدخل الناس في حيرة، وفي حالة تساؤل وانفعال وتكهن، إذ اختلطت الأمور على مجمل الناس، ففجأة توقف كل شيء؛ توقفت حركة التجارة الحرة، وتعطلت المؤسسات والشركات التي لم تعد تعمل بالشكل المعتاد.

المؤسسات التعليمية من جانبها؛ كانت الأكثر تضررا بشكل مباشر وعميق، فهي كانت تركن إلى وتعتمد أساليب تقليدية لتسيير الأمور؛ سواء فيما يختص باستراتيجيات التدريس، أو الإدارة التعليمية البيروقراطية من خلال عدم تبني نهج اللامركزية الرشيدة، ومن واكب الأمور يدرك تماما أن الميل إلى استخدام أساليب التعلم الوجاهي، والميل إلى التعامل الورقي في إدارة وتنسيق العملية التعليمية، كان هو السمة السائدة، في حين كان استخدام التكنولوجيا مقتصر على تدريب تلقاه المدرسون تناول بعموميات كيفية تعامل المدرسين مع وسائل تكنولوجية داخل غرفة الصف وفي أوضاع طبيعية، أي أي أن المعارف والمهارات التي اكتسبها المدرسون هي لأوضاع عادية، لا تتوافر فيها تحديات وتداعيات أملتها الأزمة الحالية.

هو واقع موجود، وما قلناه ينطبق على غالبية عظمى، قد توجد استثناءات لكنها بسيطة ومحدودة، وهو ما يقودنا إلى القول إن المشكلة كامنة الآن في وجود وضع جديد لم يألفه المدرسون، بل لم تألفه منظومتنا كلها، حتى على مستوى الأسرة،  فالوضع الجديد يتطلب من المدرسين معرفة كيفية التعامل مع ما أفرزته الأزمة من معطيات، تتطلب تحديد أي آليات سيوظفونها؟ وكيف يقيمون طلبتهم؟ وهل يستمرون في النسق ذاته لاستكمال المنهاج؟ والمنهجية ذاتها في تقييم الطلبة؟ هل يبادرون ويتواصلون مع الطلبة؟ أم ينتظرون الإدارات ذات الاختصاص في الوزارة لتقدم لهم الإرشادات الخاصة؟ كلها تساؤلات كانت ستراودني لو كنت مدرسا، وأظنها راودت المدرسين ودارت في أذهانهم منتظرين الإجابة عنها.

عموما، وفي سياقات تربوية عدّة محكومة بالثقافة ذاتها، ومن خلال تأمل المشهد عربيا؛ يمكن القول بأن التردد كان سيد الموقف، وهو تردد شابه عدم وضوح، ووجود أساليب إدارية بيروقراطية، يحكمها ميل إلى المركزية وروح العمل الفردي؛ الذي يتحكم بحياتنا، وعدم ثقتنا بما نحوزه من قدرات  أو طاقة كوادرنا، والميل إلى تسجيل إنجازات فردية، وضعف الإيمان بمقدرات المجتمع، وكلها عززت التردد في طرح الحلول؛ التي كان أكثرها وضوحا غير واضح المعالم أصلا وهو التعليم عن بعد، الذي تم استحضاره في بعض الحالات لطمأنة الناس بأن لدينا ما نقوله، مع أن الأهم أن يكون لدينا ما نفعله.

برأيي، أن الأزمات الكبرى وبالقدر ذاته التي تخرج أسوأ ما في الناس؛ تفجر- بالقدر ذاته- طاقاتهم؛ لكن الناس يحتاجون إلى فكرة، فالأفكار الموجه لهم ليستطيعوا تطويع قدراتهم وإمكانياتهم، والأفكار في ظل الأزمات بمثابة رأس مال للدولة والمجتمع، فامتلاك الملايين من الدولارات  قد لا يجلب فكرة واحدة، لكن الفكرة الناجزة قد تجلب الملايين، وبالتالي فإن الاستحضار الإبداعي لفكرة التعليم عن بعد، وهي فكرة قديمة جديدة؛ ومن منظور تناولها في إطار مختلف نظرا للوضعية الصعبة التي فرضت ذاتها، علاوة على عنصر المفاجأة، وبالتوازي مع حالة الحيرة والخوف والقلق، تداخلت كلها فارضة حالة مجتمعية استوجبت اللجوء إلى التعلم عن بعد خيارا استراتيجيا، مع الأخذ بعين الاعتبار ما ذكرناه آنفا من نمط تعاطينا مع الموضوع سابقا من إرهاصات جعلت كثيرين منا غير مؤمنين بجدوى هذا الخيار، فثمة متطلبات كثيرة أولها تدريب المعلمين، ووجود معرفة لديهم باستخدام التكنولوجيا، وليس آخرها وجود فوارق في امتلاك الأدوات لدى الطلبة، فالفوارق لم تقتصر على الجانب المهاري بل طالت الجانب التقني.

بشكل عام؛ كان الإيمان بالتعليم عن بعد محل شك، وكلنا يتذكر أن الدراسة في الجامعات عن طريق ما يسمى بالمراسلة كانت موضع شك، فانطباع الناس عن التعليم المفتوح كان محل سخرية، وحتى التعلم بالجامعات في إطار الدراسات العليا وإن لم يكن وجاهيا فلا يتم الاعتراف بالشهادة، والتزام الطالب بفترة محددة للإقامة أثناء الدراسة شرط للاعتراف بشهادته حتى لو كان عبقريا، ثم نأتي فجأة ونقول للمدرس النعليم عن بعد هو الأساس، وكأننا اعتباطيون!!
الأمور مرتبطة بآلية تقييمنا وتقديرنا للمعرفة لا بتقدير الإستراتيجية، فإذا أردنا دفع المدرسين باتجاه تبني هذا النهج، على من هم في قمة الهرم الإيمان بأن الأمور تقاس بنتائجها، وتقييم مخرجات التعلم، دون الانغلاق فيما إذا اكتسب المتعلم المعرفة من تعليم وجاهي، أو من تعليم بالمراسلة، أو تعليم مفتوح.  علينا إعادة النظر في منظومتنا التعليمية وفي طريقة تفكيرنا، وفي طريقة إدارتنا للعملية برمتها.

علينا الإيمان والثقة بقدرة الناس على الإبداع،ـ ومغادرة نمطيات تكلسنا داخلها، فقد حان الوقت لإجابات كبرى عن أسئلة كبرى، وأول المطلوب حوار بنّاء وشامل، بعيدا عن نظريات الشك، كلنا شركاء، وقد حان الوقت لمغادرة مربع المحاصصة لأن المستقبل لنا جميعا، والمجتمع المدني وأولياء الأمور يجب أن يكونوا شركاء في إعطاء معنى للتعلم عن بعد ليستطيعوا المساهمة في وضع حلول واستراتيجيات .

إن الحكمة في استخدام المعرفة مهمة الآن، فإذا لم يساعد التعليم عن بعد الطلبة على تكثيف البحث والتساؤل؟ وإذا لم يعزز المعلم ثقافة السؤال لدى المتعلم الآن؟  فمتى ؟
الأسئلة الملحة حاليا: هل سنغير من طريقة تعاملنا مع قيمة التعليم عن بعد؟ وهل يمكن جعل هذا  المفهوم جزءا أساسيا من منظومتنا؟ وهل سنغير من طريقة تقييمنا للمعرفة التي نكتسبها؟ وهل سنغير من طريقة إدارتنا المركزية البعيدة عن احترام القدرة العقلية لطلبتنا؟ هل سنعطي المعلمين حرية البحث عن الأساليب التي يرونها مناسبة؟ وهل سنوقف عقلية التعامل مع المعلمين  كأوصياء عليهم؟

لي ملاحظات قبل أن أختم:
• نطالب بالتعلم عن بعد للمدارس والجامعات، في الوقت الذي لا يزال فيه نظام التعلم عن بعد عير معترف به لاعتماد الشهادات العليا، فأي تناقض هذا؟ هل حان الوقت لمراجعة سياساتنا؟ تساؤل اليوم توقيته، وأتمنى أن يأخذ مداه من النقاش والمعالجة.
• الجميع يتحدثون عن عدم الجاهزية التقنية للتعلم عن بعد، والحقيقة أننا لم نكن ولا زلنا جاهزين ذهنيا ونفسيا، فهل سبق وقالت مدرسة ما لطلبتها في الظرف الاعتيادي لا تحضروا غدا للمدرسة، سنتعلم عن بعد، ثم قيمت التجربة، الإجابة : لا، وبالتالي كان علينا تهيئة أنفسنا وتبني نماذج محاكاة، لنكون قادرين على التطبيق وقت الحاجة، لكننا لم نفعل، ثم نقول انترنت، وسرعة، وخط نفاذ، ونحن الذين لم نبذل الحد الأدنى من التحضير طوال سنوات تعاملنا فيها مع التكنولوجيا باعتبارها ترفا تربويا.
عذرا للمصارحة، ولا زالت قناعاتي بأن الأزمات وكما تكشف العورات، فإنها تكشف عن القدرات والإمكانيات والتوجهات، وعن نمط إدارتنا وصبرنا وتحملنا وحلمنا وحكمتنا، فهل كشفت هذه الأزمة عوراتنا؟ أو على الأقل وضعتنا أمام أنفسنا؟


*مديرا عام مركز ابداع المعلم
سكرتير عام الحملة العربية للتعليم